عمرة المكي بين المؤيدين والمعارضين

عمرة المكي بين المؤيدين والمعارضين
مشروعيتها وميقاتها وفضلها وفضل تكرارها

بحث فقهي

إعداد
عبدالله فراج الشريف


مقدمة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , والصلاة والسلام على خاتم الرسل سيدنا وإمامنا وقائدنا إلى الهدى محمد بن عبد الله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً .

وبعد : فإن العلم يسبق العمل ؛ وهو الدال عليه , والهادي إليه , ولا يستقيم لمؤمن عبادة على جهل قال تعالى : (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم )
فقد أوجب الله العلم قبل العمل بهذه الآية , لأن شرط صحة العمل علم العامل بما يعمل , لذا ورد تفضيل العلم على العبادة فقد ذكر الإمام البخاري في الأدب المفرد حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : ” خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه”  , وروى ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه , قال : قال رسول الله  : “فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي” .
وما الخير الذي يٌراد بالعبد من ربه إلا الفقه في الدين , قال  : ” من يرد به خيراً يفقهه في الدين ”
والعمل يقتضي العمل بما تعلم على خير وجه وأصحه خروجاً من تبعة المساءلة يوم القيامة من رب الخلائق عز وجل “يا بن آدم ما غرك بي ما عملت فيما علمت”
فإنك إن فعلت ذلك حزت خير الدارين , سعادة الدنيا باطمئنان القلب إلى عملك في الدنيا , ورجاء ثوابه عند الله يوم القيامة .
ولما كان عصرنا الذي نحيا فيه تميز والحمد لله بعودة صادقة إلى الدين : بإظهار شعائره بالعمل بأحكامه , وتزاحم الشباب والشيب في دور العبادة رجاء أن يرضوا ربهم ويسعدوا بأثر طاعته في دنياهم وأخراهم , فقد كان من البدهي أن يهتم العابدون بأهم فرائض الدين , وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ولكنهم سلكوا إلى ذلك مسالك ؛ قد جانب بعضها الصواب حتى كادت في بعض الأوقات أن تكون سبب فتنة وفرقة , نهى عنها الدين وقطع دابرها , وما ذاك إلا لقلة علم وضعف دراية بعلم الشريعة , فقد نصب الجميع أنفسهم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر , وإن لم يدرك أحدهم معنى المعروف ومعنى المنكر , وطريق الأمر بالمعروف والإنكار للمنكر , فأوقع هؤلاء الآحاد بين الناس الخلاف , وجادلوا بغير علم , وأساؤوا إلى عباد الله , ومنعوهم الخير لظن منهم أنهم يأمرون بمعروف أو ينهون عن منكر , فاضطرب الأمر حتى خشي العقلاء أن يؤول الأمر إلى فتنة لايعلم إلا الله مداها .
فأنت واجدهم في دور العبادة يضربون بأيديهم على يد عابد قد رفع يديه بالدعاء إلى الله , يزجرونه زجراً شديداً بدعوى أن رفع اليدين في الدعاء غير مشروع إلا عند الاستسقاء , أو أنه بدعة , رغم تكاثر الأدلة الشرعية على مشروعية هذا الفعل , والاختلاف فيه أمر هين لايحتاج فيه إلى أمر أو نهي لأنه مما اختلف فيه بين العلماء .
وتجدهم عند مدافن المسلمين حين فجيعة مسلم في قريب له , يزجرون المشيعين للجنازة عند تلقين الميت , أو عند تلاوة آيات من القرآن أو ماشابه ذلك مما يدخل في الفروع المختلف فيها بين العلماء قديماً وحديثاً , ولايترتب عليها فساد معتقد أو اندثار معلم من معالم الإسلام .
ورغم أننا لانرى أن يؤتى من الأقوال والأفعال فيما كان يقصد بها التعبد , إلا ماشرعه الله أو أذن لرسوله  بشرعه وصح عنه , إلا أننا لانرى إنكاراً على عباد الله فيه هذه الشدة وسوء اختبار لوقت الإرشاد أو الدعوة , فقد رأيت من الحوادث في المقابر ماكاد أن يصل به الناهون عما اعتبروه منكراً إلى فتنة أو اعتداء باليد وبطش ولاحول ولاقوة إلا بالله .
وتجدهم في المسجد الحرام يشتدون على المعتمرين من أهل مكة وخاصة في شهر رمضان ينهونهم عن فعلها أو تكرارها بدعوى عدم مشروعيتها لأهل مكة أو بدعية تكرارها وتجدهم عند أدنى الحل عند معتمر الناس في التنعيم , أو عند الجعرانة ينهونهم أن يعقدوا النية من الحل , بدعوى أن المكي إنما يشرع له الإحرام من موضعه من مكة لا من الحل .
حتى أن من يأتي بهذه العبادة الجليلة العظيمة الثواب عند الله , قد يعزف عنها لشدة مايناله من عنت هؤلاء , والمستغرب فيهم أنه إن ناقشهم في رأيهم بمن لديه القدرة على ذلك زعموا أنه مظهر للبدعة داعٍ إليها زوراً وبهتاناً ليسكتوه أو زعموا أن هذا قول العالم فلان من علماء الأمة الذين يثق بهم الناس حتى لا يبقى إلا رأيهم وماهم عليه , وظناً منهم أن العلماء لايخالفون في رأيهم وماعلموا أن كل واحد من العلماء يؤخذ من قوله ويترك بقدر مادل عليه الدليل وشهد له النص , ولايعني ذلك إساءة إليه أو عدم اعتبار لقوله واجتهاده , وإنما هو رفع لقدره , فالمجتهد مهما كانت مكانته فهو معرض للإصابة , كما هو معرض للخطأ بصفته البشرية , وإلا لما قال  : “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران , وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”
وقد رأيت كثيراً من هؤلاء إنما يتعلق بقولٍ نقل إليه عن هذا العالم أو ذاك ودون أن يعلم دليله على ما يقول , ودون أن يطلع على رأي غير من نقل إليه رأيه ممن هو في مثل رتبته أو أعلى منه رتبة في العلم أو في الاجتهاد .
بل إني أزعم أن بعضهم التقط كلمة لم يفهم المراد منها فجعلها مؤيدة لرأيه وما علم أنه حينما ينسب إلى أحد قولاً يجب عليه التثبت منه علماً وفهماً حتى لا يكون عليه كاذباً أو مفترياً .
ورغم أننا لا نرى إشاعة الخلاف بين أفراد الأمة وخاصة في الفروع , فالعامي  لم يكلفه الله ما لا يستطيع , فهو ليس مكلفاً إصابة عين الصواب في كل مسالة لقصور آلته عن ذلك , لعدم علمه أو لعدم معرفته بقواعد الاستنباط والوصول إلى الحكم في دليله , وإنما يكفيه أن يقلد مجتهداً من علماء الأمة الأعلام وإنه ناجٍ إن شاء الله بذلك مؤدٍ لما وجب عليه .
إلا أننا نريد أن يعلم الناس أن الاختلاف قد وقع بين أعيان الأمة من سلفها وخلفها في الفروع , لأن ذلك أمر طبعي في البشر , فاختلاف قدراتهم وملكاتهم ومداركهم يؤدي إلى اختلاف أقوالهم بحسب اجتهادهم وقدرتهم عليه , ولا تثريب عليهم في ذلك , بل لعل ذلك سبب سعة أرادها الله لعباده بحسب أحوالهم في قوتهم وضعفهم أو استطاعتهم الإتيان بهذا الفعل التعبدي  أو ذاك الذي هو أخف منه أو أسهل , مادام الجميع يردون حوضاً واحداً ويرجعون لمصدر واحد كتاب الله وسنة الرسول  وما يتبعها من أدلة الشرع اجتهاداً أو قياساً .
وقد أفاض علماء الأمة من السلف والخلف في ذلك وألفوا فيه الكتب  لبيان أن الاختلاف في الفروع سائغ لايذم به مخالف , ولاينكر به عليه مادام الأمر لا يخرج عن اختلاف قاد إليه اجتهاد سائغ , وحتى لايتوهم متوهم أن الاختلاف الذي وقع بين العلماء أو فقهاء الأمة في الفروع سبب للفرقة والخلف المذموم فجمع الناس على رأي واحد يكاد يكون مستحيلاً للطبع والفطرة التي فطر الله الناس عليها .
والاختلاف لايكون مذموماً إلا إذا قاد إلى الفتنة والفرقة – والعياذ بالله – وهو لايكون كذلك في الفروع أبداً , فقد وقع الاختلاف فيها منذ الصدر الأول ولم يقد إلى الفتنة , وإنما قاد إليها عندما جهل الناس أصله وأسبابه وخلف خلف جهال بشرع الله نصبوا أنفسهم مفتين وهم ليسوا من أهل الفتوى , بل لعلهم ليسوا من أهل العلم أصلاً , فأرادوا حمل الناس على رأيهم , وقولهم دون وجه حق , واشتدوا في ذلك على العباد , بل لعل بعضهم اضطهد العلماء وأهل البصيرة لذلك وظلمهم .
فإذا علمنا ذلك هان علينا الأمر وذهبنا نبحث عما نتفق عليه من أصول الدين عقائده وشرائعه , وعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه من الفروع لفهم اختص به بعضنا دون بعض لنص دليل أو لقياس وصل إليه ولم يصل إليه الآخرون .
وحفظنا بذلك للأمة وحدتها وأبعدناها عن التناحر والاختلاف فيما لا فائدة ترجى من الاختلاف عليه .
ألف العلماء في الاختلاف كثيراً من الكتب منها ما اشتمل عليه كتاب الأم للإمام الشافعي مثل : اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى” و “:اختلاف أبي حنيفة والأوزاعي” و “اختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن” و “اختلاف الشافعي مع مالك” ومنها “اختلاف العلماء” لمحمد بن إبراهيم بن منذر , و “اختلاف الفقهاء” للطحاوي . و “تأسيس النظر” للدبوسي وغيرها كثير ,
ولعل ما أردناه بهذه الرسالة عن عمرة المكي : مشروعيتها وفضلها وفضل تكرارها وميقاتها , إنما هو مثل لما لايضر الاختلاف فيه , فهو من الفروع التي وقع الاختلاف فيها بين العلماء , وكل فريق من المختلفين أخذ برأي مبني على الدليل والفهم له ولم يضرهم أن عمل كل منهم بما أدى إليه اجتهاده , دون تنازع أو خلاف يؤدي بهم إلى الفرقة أو التعادي أو التباغض .
وما دفعني إلى كتابة هذه الرسالة إلا مانالنا في بلد الله الحرام من عنت بعض الإخوة في أمر عمرة المكي , فنحن في بلد الله الحرام نعتمر كما اعتمر السلف من قبلنا نطلب بأداء العمرة فضل الله ورحمته , ونرجو ثوابه , ونسأل الله أن يكون عملنا صواباً , ولانزعم أن غيرنا على خطأ , فلعل اجتهاده أدى به إلى أن الطواف بالبيت وحده خير من العمرة عنده , فليستكثر منه كما شاء , وليطلب رحمة ربه وثوابه , وليعقد النية بعمرته – إن شاء – في موضعه بمكة إن قاده اجتهاده إلى ذلك , ولينكر – إن شاء – مشروعية العمرة للمكي أصلا فلا يأتها أبداً , فذاك أمره وما قاده إليه اجتهاده , وليس لنا عليه إلا أن أبنا مانراه صواباً لما عرفنا من أدلة الشرع وشواهده .
وعليه أن يعذرنا في اختلافنا معه فيما يقول وليدعنا لاجتهادنا واجتهاد من قلدناه من سلف الأمة وخلفها , ولاينكر علينا ما نراه فضلاً من الله حبانا الله به في ظلال بيته الحرام من العمل العبادي الذي لا يختلف عليه , فما العمرة إلا عبادة لله خالصة , فلماذا نُنْهى عنها ؟ قال تعالى : (أرأيت الذي ينهى . عبداً إذا صلى . أرأيت إن كان على الهدى . أو أمر بالتقوى)
وليجتمع معنا – إن شاء – على الهدى فيما اتفقنا عليه من أمر الدين عقائد وشرائع ولنكن يداًُ واحدة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه .
أقول ذلك اعتذاراً إن بذلت الجهد في الاستقصاء لهذا الأمر الفرعي في إثبات مشروعية العمرة لساكني مكة – حرسها الله – وميقاتها وفضلها وفضل تكرارها فما أردت إلا أن أضرب المثل لإخواني فيما لايجب أن يكون مجالاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما اختلف فيه بين العلماء من الفروع حفاظاً على وحدة الأمة , وانتهاءً عما يقود إلى الاختلاف المضر بين أفرادها والذي قد يؤدي إلى فتنة ليس من مصلحة الأمة أن تثار لسبب مثل هذا.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين .

كتبه : عبدالله فراج الشريف
بمكة المكرمة صبيحة الجمعة 25/10/1413هـ

عمرة المكي بين المؤيدين والمعارضين

قراءة الكتاب
تحميل الكتاب

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

مقومات التنمية الاقتصادية في ظل أحكام الشريعة الإسلامية

مقومات التنمية الاقتصادية في ظل أحكام الشريعة الإسلامية رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الاقتصاد …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: